Main Content
تبدو أضرحة القبور كما شجر الزيتون، مغروسة في تراب مقبرة الشهداء. مخيم برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

تنبت الأضرحة كشجر الزيتون في مقبرة الشهداء في مخيم برج البراجنة. مخيم برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

ثمّة مَقبرَةٌ في الأُفُقِ

"ثمّة مقبرة في الأفق، وشواهد القبور البيضاء مغروسة في التراب كالقدر… باردة، قاسية، ولا تذبل… ترى، هل يوجد فوق قبرها رخامة؟"

– غسان كنفاني، شيء لا يذهب ١٩٥٨

يستمر جيش الاحتلال الصهيوني، برعاية قوى الاستعمار الغربي والتطبيع العربي في حرب الإبادة الممنهجة على غزة المحاصرة برًا وبحرًا وجوًا للشهر التاسع على التوالي. بلغت الحصيلة غير النهائية للعدوان الهمجي أكثر من ١٢٠،٠٠٠ شهيد وجريح ومفقود ومعتقل، بالإضافة إلى دمار شامل للبنى التحتية والمرافق الحيوية في القطاع. جعلت "إسرائيل" من كل مساحة فارغة في القطاع إمّا مقبرة للشهداء أو مخيمًا للنازحين، دون رادع يردعها غير المقاومة. حمل الآباء جثامين أطفالهم الشهداء وعبروا المسافات الطويلة تحت وابل القذائف وأعيرة القناصة والدبابات المجنزرة، علّهم يصلون قبرًا ساكنًا يخلد فيه الصغار. دفنت العائلات الفلسطينية شهداءها في باحات المدارس والمستشفيات، في المتاجر والبيوت، وعلى الأرصفة وجوانب الطرقات. أجبر الغزاة الأهالي على ترك أجساد الشهداء تتحلّل في العراء، دون أن ينال الأحياء شرف إكرامهم بدفن لائق.

كلّما اشتّد القصف مذكّرًا بأيام العدوان الأولى على غزة، شارك فلسطينيون محاصرون بالموت خواطرًا يسألون الله فيها نصيبهم من قبر وشاهد يهدي سبيل المشتاقين بعد أن تضع الحرب أوزارها، يتمنّون موتًا لا يقطِّع أوصالهم ويشوّه ملامحهم، عسى يتعرّف الناجون عليهم من وجوههم لا من بقايا ثيابهم المألوفة. كتب أحدهم أنّه ولكثرة ما أوغل الاحتلال في دم الفلسطينيين في غزّة، صار الناس يفرحون لمجرّد عثورهم على جثث أحبائهم الشهداء. مع الإبادة القائمة، يغدو الضريح والشاهد تعبيرًا عن "موت مكتمل" وانتصارًا على سياسة المحو الصهيونية المزدوجة، محو حياة الفلسطينيين ومحو موتهم أيضًا.

مع الإبادة القائمة، يغدو الضريح والشاهد تعبيرًا عن "موت مكتمل" وانتصارًا على سياسة المحو الصهيونية المزدوجة، محو حياة الفلسطينيين ومحو موتهم أيضًا.

في نصٍّ بعنوان "غزّة: تحوّلات بنية الموت في زمن الإبادة"، تلفت الباحثة الفلسطينية عروبة عثمان إلى "طمس عوالم الموت"، إن عبر استهداف الطيران المعادي مواكب المشيّعين في الجنازات من غزة إلى جبل عامل، أو تجريف الغزاة لعشرات المقابر النظامية والعشوائية المستحدثة من قبل الأهالي حول المدارس وفي ساحات المشافي. تعتبر عثمان أنّ هذا الطمس يحمل بعدًا تاريخيًا وسياسيًا، فتكتب: "طال [الطمس] قبور الجيل الأول للنكبة ممّن عاشوا جلّ حياتهم في مخيمات اللاجئين في قطاع غزّة، وتوفاهم الله قبل عدّة سنوات أو عقود. إنّ إبادة قبور هؤلاء وشواهدها بمثابة إمعانٍ في نكران النكبة وطمس ذاكرة اللجوء والحلم المستمر بالعودة إلى الديار، خصوصًا في مخيم جباليا الذي تحتلّ فيه مقبرة الفالوجا رمزيةً عاليةً لتخليدها ذاكرة الشهداء والمقاومة، والنكبة والعودة المستمرّتَيْن".

Video file

عمومًا، يسودُ اعتبارُ الحفرة التي دُفِنَ فيها عددٌ من ضحايا المجازر والويلات في لحظة منصرمة على أنّها مقبرة جماعية، يقترح صديق فلسطيني النظر إلى كل المقابر الفلسطينية المشيّدة واحدة تلو الأخرى على أنّها قبرٌ مفردٌ ممتدٌّ في تراب فلسطين وبلاد الشام، وغائرٌ في ذاكرة أهلها. "أليسَت المقبرة الجماعية هي الحفرة حيث يوارى الثرى ضحايا قضوا على يد القاتل نفسه أيضًا؟"، يعلّل الصديق النابلسي معتبًرا أنّ المقابر الجماعية في السياق الاستعماري تغدو جميعها حفرةً واحدةً مهولةً ومفتوحةً على الجغرافيا والتاريخ، يخلد فيها شهداء مقاومة المشروع الصهيوني منذ نحو قرن. 

عام ١٩٥٣، أقام أهالي برج البراجنة أول مقبرة في المخيم، وسرعان ما اندَثرَت وبُنِيَ فوقها حيّ الكويكات بسبب ضيق المساحة والزيادة السكانية. لاحقاً، قدّمت اللجنة الشعبية في المخيم مقترحًا يقضي بتحويل ملعب كرة القدم الذي تمّ تأسيسه بهدف تدريب الأشبال عام ١٩٨١ إلى مقبرة، إذ بات صعبًا على الأهالي بلوغ مثوى شهداء فلسطين في شاتيلا. خلال الثمانينات، عَقدُ الحصار الطويل على المخيمات الفلسطينية في لبنان، عانى العمال الفلسطينيون الأمرّين جرّاء التضييق المستمر والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري من قبل الجيش اللبناني وسائر الأجهزة الأمنية الرسمية والميليشيات المتصهينة.

قبور متراصفة في مقبرة الشهداء في مخيم برج البراجنة. برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

أضرحة متراصفة في مقبرة الشهداء، ولضيق المساحة في المخيم، صار كل ضريح أشبه بقبر جماعي لأبناء العائلة الواحدة. برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

بين عامي ١٩٨٥ و١٩٨٧، شنّت حركة أمل بمساندة من قوات الردع السورية واللواء السادس المنشقّ آنذاك عن الجيش اللبناني الحربَ على المخيمات الفلسطينية وفرضت حصار متقطعًا وقاسيًا. هدفت الحرب الشعواء إلى إخراج الفلسطينيين من الجنوب والعاصمة اللبنانية باتجاه البقاع وسوريا شمالًا وإرجاع أوضاعهم إلى ما قبل اتفاق القاهرة ١٩٦٩، كما وتجريدهم من حق العودة والقدرة على الدفاع عن النفس والكفاح المسلح. في ذلك الوقت، استحال على سكان برج البراجنة بلوغ مقبرة شهداء المخيم حيث كانت المنطقة مسرحًا للمواجهات العسكرية الحامية.

كان أبو ويليام، أحد المدافعين السابقين عن المخيم، جالسًا يشرب نارجيلة التنباك أمام محلّه الواقع على الطريق المؤدية للمقبرة، قال مستعيدًا تلك الأيام: "سنة ١٩٨٥، لم تكن هنا أيّة من هذه العمارات"، وأشار بيده شارحًا: "حفرنا نفقًا طويلًا وعندما جاؤوا ليفجّروا المنطقة، تمكنّا من مباغتتهم!" في تلك الحقبة، راح الأهالي يدفنون ذويهم الشهداء في مقبرة جماعية مقابل مستشفى حيفا، عُرفَت بمقبرة الجندي المجهول.

قبر جماعي في مقبرة الجندي المجهول في مخيم برج البراجنة، تتكدّس فوقه زجاجات البيبسي القديمة الفارغة. برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

على شاهد قبر جماعي في مقبرة الجندي المجهول نقرأ الفاتحة والآية ١٦٩ من سورة آل عمران في الكتاب الكريم: "الفاتحة، بسم الله الرحمن الرحيم، ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربّهم يرزقون، صدق الله العظيم،" ومن ثم عبارة: "المجد والخلود لشهدائنا الأبرار". مخيم برج البراجنة، بيروت، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

تقع مقبرة الجندي المجهول بين عمارتين سكنيّتين مرتفعتين ومتجر قديم على طريق أساسي باتجاه مستشفى المخيم. وسط المقبرة يقف تمثال الجندي المجهول مقبلًا، يكرّم المجهولين ممّن ارتقوا على درب الثورة وحلم العودة من أبناء المخيم. عقب انتهاء حرب المخيمات، عمد بعض الأهالي إلى نقل رفات شهدائهم إلى مقابر منفردة في جبّانة المخيم، وتخلّف البعض الآخر ولا زالت المقبرة تضمّ جثامين ١٩ شهيدًا.

عند بوابة مقبرة الجندي المجهول، التقيتُ بالسيدة فاطمة حمّاد، بكر الشهيد حسن خليل حمّاد، بادرتني بالكلام: "أبي مدفونٌ هنا، كل مرّة أقصد فيها الشيخ محمد لحضور درس الدين، أمرّ على المقبرة وأقرِئه السلام والفاتحة". في الأيام الأولى للحرب، ضربت قذيفة بركة المياه على سطح بيت العم أبو ديب فوق بيت أبو خليل، وقع غطاء البركة وأصاب أبو خليل الذي كان قد وصل العمارة توًا بعد أن تفقّد حال صديقه أبو جودة. "تشوّه وجه أبي ودفنّاه جثّة بلا رأس. كان عمره ٥٧ سنة، وأصغر إخوتي حمّاد لم يكن قد تعدّى عامه الثاني، كما أصبتُ أنا بجرح في رجلي"، تقول السيدة فاطمة، تتلعثم بدموعها ثمّ تنطق عن ذاكرة مؤرِّخة: "وقعت القذيفة الأولى في حي الكابري، قرب بيتنا، والثانية ضربت بيت أم مروان، والقذيفة الثالثة على بركة أبو ديب."

صور الشهداء الأربعة: حسن دغمان ومحمد روبين (أبو شادي) وعلي خبيزة، تجاورها آية الكرسي مطبوعة فوق قبر جماعي، وفوقه لوحة تحمل وصية كُتِبَ فيها: "عندما تعجز الأجساد عن اللقاء، تبدأ أرواح الشهداء رحلة البحث عن الوطن، فإما عظماء فوق الأرض وإما عظماء في جوفها، إلى فلسطين خذوني معكم". برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

تعود الصور المعلّقة للشهداء حسن دغمان ومحمد روبين (أبو شادي) وعلي خبيرة، من اليمين إلى اليسار، وتجاورها آية الكرسي مطبوعة فوق الضريح الجماعي الذي وُضعَت فوقه لوحة تحمل وصيّة كُتِب فيها: "عندما تعجز الأجساد عن اللقاء، تبدأ أرواح الشهداء رحلة البحث عن الوطن، فإما عظماء فوق الأرض وإما عظماء في جوفها، إلى فلسطين خذوني معكم". برج البراجنة، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

عام ١٩٦٩، شيّدت منظمة التحرير الفلسطينية مثوى شهداء فلسطين عند أطراف حرش صنوبر بيروت، ومذّاك راحت تستقبل المقبرة الفدائيين والمتوفين، من معركة الكرامة في الأردن إلى ساحات حرب لبنان وحتى طوفان الأقصى. في "المقبرةَ الوطن" نصب تذكاري لشهداء مجزرة تل الزعتر ١٩٧٦ الذين قتلوا على يد الميليشيات المسيحية اللبنانية والجيش السوري، ونصب آخر لشهداء مذبحة صبرا وشاتيلا عام ١٩٨٢ التي ارتكبها الصهاينة وجيش لبنان الجنوبي والقوات اللبنانية. توجد مقابرٌ جماعية تضمّ بضعة عشرات من الشهداء تحت النُصبَين، ولكنّ أعداد الذين قضوا قصفاً وقتلاً وذبحاً في كلتا المجزرتَين بالآلاف.

ضاعت أجساد الشهداء في ركام الطرقات والمحال والمنازل المجرّفة في مخيم تل الزعتر وجسر الباشا المباد. مَنعَت الميلشيات طواقم الإسعاف من الوصول إلى العائلات العالقة تحت ركام البيوت والملاجئ. "كان الوصول إلى الموت من أسهل ما يكون في تل الزعتر، لكن الوصول إلى القبر هي معضلة الأحياء"، يقول  ناجٍ شَهِدَ إبادة المخيم.

Video file

كل مجزرة تذكّر بسابقاتها، وفي وعي كل فلسطيني فقدٌ أوّل نتيجةَ الاحتلال، يتدرّب بسببه على الحداد، ويحيل إليه كل موت جديد، متمرّسًا حفر القبور في الذاكرة. في مقابلة مع السيد أحمد الجربي، لاجئ فلسطيني حدّثني أنه كان طفلاً إبّان مذبحة تل الزعتر، فقدَ خلال الحصار والقصف كل من جدّه وجدّته لأمه وعددًا من أخواله وخالاته من آل قاسم، كما استشهد أبوه قنصًا بعدما تمكّن من إدخال ٨ شاحنات محمّلة بالأغذية والأدوية إلى المخيم المحاصر.

منذ أن كان يافعًا، اعتاد أبو خالد مرافقة أمّه إلى مقبرة الشهداء لتلاوة الفاتحة وقراءة ما تيسر من كتاب الله عن روح خالته الصغرى التي ضاعت من والدته خلال المقتلة، فاحتسبتها الأخيرة عند الله شهيدة. بعد قرابة خمسة عقود، تفاجأَت الوالدة بشقيقتها حيّة ترزق في ألمانيا، وذلك بعد أن تعرّف الأحفاد على بعضهم البعض صدفة على وسائل التواصل الاجتماعي. "سافرت إمي لعندها وشافتها هي وأحفادها... بعد ٥٥ سنة انلمّ شمل عيلة فلسطينية واحدة،" يقول أبو خالد وعيناه تدمعان، اليمنى عسلية واليسرى أطفأتها حرب المخيمات ولا زالت تبكي ما شهدت. مضى على إبادة مخيم تل الزعتر ٤٨ سنة وعلى معركة الكرامة وأيلول الأسود في الأردن التي ورد ذكرها مرارًا على لسان الجربي خلال المقابلة ٥٥ سنة.

مشهد عام لمثوى شهداء فلسطين، يظهر في العمق نصب رخامي أسود لشهداء مجزرة تل الزعتر ١٩٧٥، وخلفه إلى اليمين نصب إسمنتي أصغر حجماً لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا ١٩٨٢. شاتيلا، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

مشهد عام لمثوى شهداء فلسطين، يظهر في العمق نصب رخامي أسود لشهداء مجزرة تل الزعتر ١٩٧٦، وخلفه إلى اليمين نصب إسمنتي أصغر حجماً لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا ١٩٨٢. شاتيلا، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

في كتابها "أعداءٌ كُثُر"، تقول روزماري صايغ: "ليس التاريخ الشفوي حقائقًا تاريخية إنّما تجربة تُعاش وتُستعاد." ينتقل أبو خالد من تل الزعتر إلى غزة مباشرةً ويردف: "مشرّدون نحن، تذبحنا الدول العربية أكثر من "إسرائيل". أُمهِلَ الصهاينة ١٠٠ يوم ليقضوا على غزة، وما استطاعوا أن يقضوا على غزة." يولّف الجربي شريط ذكرياته وتجربته دائريًا، فهو لا يقدّمها كحدثٍ ناجز في الماضي بل كتجربة متكرّرة من تل الزعتر إلى شاتيلا وغزّة في نكبة مستمرّة، لا يستذكر التواريخ بدقّة ولا يعير اهتمامًا لتسلسل الأحداث في روايته المتدفقة، تتشابك فيها تجارب الحصار ومشاهد الدمار.

عُرِفَ مخيم شاتيلا باسم "مخيم المجاهدين"، أسّسه اللاجئون المهجّرون من شمال فلسطين المحتلة واعترفت به الأونروا رسميًا عام ١٩٤٩. عند مقبرة المسجد في المخيم التقيتُ بالسيّد الجربي، فهمتُ منه أنه انتقل مع عائلته عقب مذبحة تل الزعتر إلى شاتيلا وتدرّب في كراجات حركة فتح في منطقة المدينة الرياضية وصبرا على مختلف الآليات المتاحة آنذاك. كان أبو خالد مسافرًا في اليمن مع رفاقه المقاتلين الفلسطينيين عندما علموا باندلاع حرب المخيمات، وعلى الفور، عادوا ليدافعوا عن أهاليهم، "تبلغتُ أنّ إخوتي محاصرين في شاتيلا، فتدبّرت أمري في الدخول إلى المخيّم. كانت حرباً كبيرة جدًا خضناها بسلاح بسيط: قاذف ب-٧، كلاشن، دكتريوف… بينما كانت بحوزتهم دبابات السوريين ومدافعهم"، يسرد الجربي.

"كنا نقتصد في استهلاكنا إلى حد لا يمكن للمرء تصوّره"، يقول أبو خالد دون أن ينسى فضل الشهداء القادة، "كان الشهيد الأخ علي أبو طوق وأبو فادي حليمة وحسين الصقور وعنتر سلامة من المسؤولين العسكريين في المخيم، والحمد لله، كانت القيادة حكيمة وصادقة". في أيار/مايو ١٩٨٥، تمركز القائد العسكري علي أبو طوق في مخيم شاتيلا مع مجموعات الفدائيين المدافعين عن المخيم، فقد أدرك ضرورة تحصين المخيم وتعزيز صمود أهله لئلا يلحقه مصير معسكر تل الزعتر، لا سيما وأنه يصغر برج البراجنة مساحةً ويتقدّم التجمعات السكنية الفلسطينية غير الرسمية، كالداعوق وصبرا وسعيد الغوّاش.

لا يستقيم الحديث عن مخيم شاتيلا ومقبرته الجماعية دون ذكر شذرات من سيرة القيادي الاستراتيجي الشهيد علي أبو طوق. وُلد أبو طوق منتصف القرن الماضي في حمص لعائلة حيفاوية هُجّرت في النكبة، بعد نكسة حزيران/يوليو ١٩٦٧ انتقل إلى الأردن وانضوى في صفوف حركة فتح وأسس اتحاد طلبة الضفتين، كما شارك في معارك أيلول الأسود ١٩٧٠ وأحراش جرش وإربد ١٩٧١ دفاعاً عن الثورة.

جاء أبو طوق إلى لبنان مع الفصائل الفلسطينية، وهنا، تركّز اهتمامه على تأطير وتنظيم الطلاب والطالبات، كما انتخب عضوًا في الهيئة الإدارية للاتحاد العام لطلبة فلسطين. ساعد الفتيات الفدائيات اللواتي أخذن يتجمّعنَ في أحد المنازل للتدرّب على استخدام الأسلحة الخفيفة وتصنيع المتفجّرات من المواد البدائية بالإضافة إلى التعلّم عن الأمن والعمل السري. كما شاركت طالبات الثانويات والجامعات في العمل العسكري، وكنّ يُعرفنَ باسم "بنات علي أبو طوق"، ومن بينهنّ الشهيدة دلال المغربي، قائدة عملية الثأر لروح الشهيد كمال عدوان والتي ردّ عليها الاحتلال باجتياح جنوب لبنان سنة ١٩٧٨.

Video file

عام ١٩٧٥، ساهم أبو طوق بتأسيس السرية الطلابية من الطلبة الجامعيين وقادة العمل الطلابي والعمل الثوري العسكري، قاتلت السريّة في معركة كفرشوبا وعُرِفَت بكتيبة الجرمق عام ١٩٧٧. خلال الاجتياح الصهيوني عام ١٩٧٨، حصّن الشهيد القائد قلعة الشقيف ونظّم إمدادات الكتيبة من مقاتلين وأسلحة ومؤن، كما حققت الكتيبة انتصارات مهمة في بنت جبيل ومارون الراس. 

بعد حرب الجبل عام ١٩٨٤، أعاد أبو طوق بناء وتنظيم قوات الثورة الفلسطينية. "متى سألتَ عن علي، وجدته يقطع قضبان الحديد لاستعمالها في تحصين الملاجئ، أو عائدًا ومعه البنات، طالبات الجامعات، جاء بهنّ حتى يملأن أكياس الرمل ليقوم بنقلها لاحقًا إلى المواقع القتالية. قد تجده يهاتف سائقَ جرافة في صيدا عند الساعة الخامسة صباحًا يحاول إقناعه بالذهاب لبناء بعض السواتر، أو يحفر نفقًا، ويصب خندقًا إسمنتيًا…"، يقول معين الطاهر في مقابلة تاريخ شفوي مع شفيق الغبرا.

كانت هذه مهامه التي شغلته ليلًا ونهارًا، ولذلك لم يعرف الراحة إلا متقطّعة، قيلولة في الشاحنة بين نقلة وآخرة أو غفوة خلال اجتماعات الكتيبة. "كان علي بطل التحصين بلا منازع!" بشهادة رفيقه. افتتح مع الطبيب الرفيق اليوناني-الكندي كريس يانو مستشفى ميدانيًا من بضعة غرف اسمنتية متجاورة لمعالجة الجرحى والمصابين، كما اهتمّ بإدارة التموين الغذائي والحاجات الأساسية لأهالي المخيم، وقيل أنّه كان يحرص على توزيع علب الحليب والبنادق، متى وُجدَت، شخصيًا على الأمهات والآباء. 

"بالرفش وقطع التنك، استعّنا بكل ما وصلته أيدينا لنحفر تحت البيوت سردابًا صغيرًا وطلّاقةً ونفقًا حتى نقاوم"، يشهد أبو خالد على صمود المقاومة في شاتيلا. بهمّة وتفانٍ استثنائيَّين، بنى أبو طوق ورفاقه الملاجئ لإيواء العائلات الهاربة من القنابل التدميرية التي أفرطت قوات حركة أمل والجيش السوري باستخدامها، كما أوصى بإحياء مختلف المناسبات الوطنية داخل الملاجئ. عُرِف الملجأ المتاخم لمقبرة مسجد شاتيلا باسم "ملجأ علي أبو طوق" بحسب الجربي الذي صمد فيه لشهور طويلة. نسّق أبو طوق مع شيوخ المنطقة لتحويل أرضية مسجد المخيّم إلى مقبرة جماعية بعدما تعذّر بلوغ مثوى شهداء فلسطين، وفيها دُفِن بعد اغتياله يوم ٢٧ كانون الثاني/ يناير ١٩٨٧. بعد وقف القتال وفكّ الحصار، صَبّ أهالي المخيم العواميد وشيّدوا المسجد فوق المقبرة وصارت تعرف بمقبرة المسجد. 

يستعيد الجربي أيام المجاعة قائلًا: "قاسينا الويلات في شاتيلا، نفذت عندنا كل المؤن الغذائية من المحال والمستودعات". بعد مشاورات، أفتى الشيوخ بأكل ما تيسّر للصمود والبقاء على قيد الحياة، أما هو فقد حلف اليمين ألا يأكل قطّة. في إحدى الليالي وفيما كان غارقًا في نومه رغم شدّة القصف، أيقظه أخوه الشهيد ابراهيم ورفيقه بعد أن عثرا على دجاجة فقاما بطبخها، وما كان من أبو خالد إلا أن نهض وشاركهما الطعام. "كان المذاق أشبه بطعم الدجاج، ولكنني فهمت لاحقًا أننا نأكل قطّة مذبوحة. سبحان الذي سخّرها لنا لنبقى أحياء… صمدنا لأسابيع وشهور بوجبة وحيدة مكوّنة من ربع رغيف خبز وبضعة ملاعق من الأرز"، يتذكّر أبو خالد.

خلال حرب الإبادة الحالية في غزة، انتشرت مناشدات من فلسطينيين في شمال القطاع لفتوى شرعية تبيح لهم أكل لحم القطط الشاردة، كما اضطر بعضهم لذبح الأحصنة وتوزيع لحمها على المحاصرين المجوّعين. يحاول أبو خالد أن يُقرّبَ صورة الحال بعد مضي العام الأول من الحرب على المخيمات، فيقول: "كما تشاهدين الآن مخيم غزة مسطّحًا على الأرض، مثله كانت شاتيلا"، في حديثه تصير غزّة المخيّم والمعيار.

مشهد عام لمقبرة المسجد في مخيم شاتيلا تظهر ثلاث أضرحة كبيرة، كل منها عبارة عن حفرة عميقة تضمّ عشرات الشهداء المتراصِفين في عدّة طوابق. نقش الأهالي أسماء الشهداء الذين استطاعوا التعرّف عليهم على ألواح رخامية، كما زينوا بصورهم جدران المقبرة. مخيم شاتيلا، لبنان. ٢٥ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

مشهد عام لمقبرة المسجد في مخيم شاتيلا تظهر ثلاث أضرحة كبيرة، كل منها عبارة عن حفرة عميقة تضمّ عشرات الشهداء المتراصِفين في عدّة طوابق. نقش الأهالي أسماء الشهداء الذين استطاعوا التعرّف عليهم على ألواح رخامية، كما زينوا بصورهم جدران المقبرة. مخيم شاتيلا، لبنان. ٢٥ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

مطلع العام الجاري، شارك الآلاف من أهالي المخيمات الفلسطينية والضواحي والأطراف اللبنانية في تأبين نائب رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، الشهيد صالح العاروري. وإن كان كل تشييع مبايعة، فبيروت قد جدّدت البيعة للثورة الفلسطينية وذكّرت جنازة الشيخ صالح وإخوانه بجنازة الشهيد غسان كنفاني وابنة أخته لميس التي قيل عنها أنها كانت أكبر المظاهرات السياسية في العالم العربي حتى خمسة عقود خلت. يُحكى أن الشهيد كمال عدوان تقدّم الجموع الغاضبة لاغتيال عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمتحدث الرسمي باسمها وأحد مخططيها الاستراتيجيين، فتمنى لو ينال تأبينًا مشرّفًا كتأبين رفيقه كنفاني، وفعلًا، كان له ما أراد بعد شهور قليلة إثر اغتياله مع كل من القياديَين كمال ناصر وأبو يوسف النجار في عملية فردان الشهيرة التي شارك فيها أكثر من ٣٠٠٠ عنصر من القوات الصهيونية.

صرّح الشهيد في آخر حواراته المتلفزة بأنّ: "المستقبل لشعوب هذه المنطقة، ولن يستطيع أحد أن يسير عكس التاريخ ويأسر إرادة هذه الشعوب، والمستقبل للمقاومة، والمستقبل لتحرير فلسطين، إن شاء الله، وليس بعيدًا."

عقب الانتفاضة الثانية، أسّس القائد العاروري نواة القسّام في الضفة الغربية، ونتيجة لذلك قام الاحتلال باعتقاله طيلة ١٥ سنة. انهمك الشيخ صالح في تركيب وبناء وحدة الساحات طيلة مسيرته الجهادية، ويحسب له الدور الأبرز في تفعيل المقاومة في مخيمات لبنان، حيث مضى منها الفدائيون العائدون ونفّذوا عدّة عمليات نوعية عابرين حدود التراب الواهية. قبل بضعة أسابيع من الطوفان، صرّح الشهيد في آخر حواراته المتلفزة بأنّ: "المستقبل لشعوب هذه المنطقة، ولن يستطيع أحد أن يسير عكس التاريخ ويأسر إرادة هذه الشعوب، والمستقبل للمقاومة، والمستقبل لتحرير فلسطين، إن شاء الله، وليس بعيدًا."

يعتبر المنظّر اللاتيني إنريكِ دوسّيل التحرير خروجًا من السجن، أي أنّ التحرير هو العبور. ويضيف شارحًا أنّ التحرير هو الصَّدْع والشّق. نقول بلساننا العربي: صَدَعَ بالحقِّ أي جَهَرَ به دونَ خوفٍ، وصَدَّعَ الجدار، شَقَّه، والشَقُّ هو الثَقَب النافِذ. شَقَّ صُبحُ التحرير، طَلُعَ، وأيضاً، ثَقَّبَت المقاومة نارَ الحريَّةِ، أَوْقَدَت نارَها وأَشعَلَتها. 

Video file

في دراسته النظرية المسهبة عن "المقبرة الفلسطينية الحيّة"، يعتبر الباحث الفلسطيني عبد الرحيم الشيخ أنَّ المقبرةَ برزخٌ سياسي يفصل بين نكبتين: "نكبة فوق أرضية تفصح عن حياة ينقصها كثير من الحياة التي قطع سيرورتها الطبيعية عنف الحروب والمجازر والقتل اليومي، ونكبة تحت أرضية تفصح عن موت ينقصه كثير من الموت، وقطع صيرورته الطبيعية عنف المقابر الجماعية، وقصف المقابر، وتعليق الموت باحتجاز جثامين الشهداء في الثلاجات ومقابر الأرقام، وعدم الكشف عن مصير المختطَفين الذين أُعلن قتلهم من دون إبراز ما يثبت استشهادهم." ولكن في سياق الإبادة والحصار، تزحف أماكن الموت التي كانت تشيّد على هامش المناطق السكنية إلى فضاءات الحياة الاجتماعية فتجعل منها مقابرًا جماعية و"مجالًا مزدوجًا لنشر معاني الحياة والموت في آنٍ واحد"، تكتب عروبة عثمان مشيرةً إلى "تحول جذري في المعاني والوظائف الاجتماعية التي تنطوي عليها هذه الفضاءات الحياتية الكثيرة التي باتت امتدادًا واسعًا لعمل المقبرة". 

في معسكر جباليا مثلًا، تحوّل السوق الشعبي إلى مقبرة جماعية، وكان المخيم، –منذ تأسيسه عام  ١٩٤٨ حتى محاولة اجتياحه الثانية الفاشلة خلال الإبادة القائمة،– عصيًا على الاحتلال ومنطقة لتمركز الفدائيين. استبسل المقاومون في الدفاع عن المخيم في معارك وُصفت بأنها الأشد ضراوة منذ بدء الاجتياح البري، وسطروا فيها، رغم الحصار المطبق وشبح المجاعة الملوِّح مجدّدًا في الأفق، ملاحمًا قتالية تُدرَّس. سوّى الاحتلال شوارع المخيم وأحيائه السكنية وبنيته التحتية بالأرض كما جرّف المقابر وخرّب معالمها، في سعي واهم لوأد المقاومة المسلحة فيه وضمان عجزها على إعادة إنتاج نفسها. تكدّست جثث الشهداء في شوارع وأزقة معسكر جباليا دون استطاعة الأهالي انتشالها بسبب انتشار القناصة وتحليق طائرات الكواد كوبتر واستهدافها المواطنين أينما رصدتهم، حتى صارت جثامينهم فريسة للقوارض والفئران المنتشرة في كل حدب وصوب.

بالعودة إلى قراءة عبد الرحيم الشيخ، تتلاشى الفواصل ما بين نكبة فوق الأرض ونكبة تحتها في غزة، لتتداخل المقابر الجماعية بالمخيمات. إلا أنّ تاريخ النكبة الفلسطينية ليس تاريخ تقتيل وتهجير فحسب، بل تاريخٌ من مقاومة واقع النكبة أيضًا، تفصح عنها الأنفاق المحفورة في عمق تراب غزة. كأن يكون النفق اليوم لئلا تكون المقبرة والمخيم غدًا.

الجهة الشمالية من مثوى شهداء فلسطين في شاتيلا. بيروت، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

الجهة الشمالية من مثوى شهداء فلسطين في شاتيلا. بيروت، لبنان. ٤ شباط، ٢٠٢٤. (حَنين عامل، مصدر عام)

على أية حال، ليست هذه دعوة لحمل الورود إلى مقبرة الشهداء، حيث تمثّل شواهد الأضرحة مدونات سياسية تستقرئ زوّارها الغرباء سِيَراً وتواريخًا متفلتة من سياسات المحو والتجهيل، لأنّ الشهداء يريدون "شيئًا لا يذهب"، حالهم كحال ليلى، شخصية في قصّة لغسان كنفاني تحمل العنوان عينه. ترك أحدهم ورقة مغلّفة على قبره طُبعَ عليها مقطعٌ من كلمات الشهيد: "إننا نتناسخ، نعيش في بعضنا ونموت خارج أنفسنا، لقد تحلل اللحم إلى تراب وانبعث التراب لحمًا، لا شيء ينتهي. ومن يدري؟ فقد ننجر خشب الشجرة التي تروي نفسها بلحم أمي، ذراعًا لبندقية تستعيد أرضًا".

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.